ARCHITEB Forum

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتدى الهدسة المعمارية في الجزائر


    جدلية الساكن والمسكون

    السعيد الرس
    السعيد الرس
    عضو مبتدئ


    عدد المساهمات : 69
    النقاط : 9253
    نقاط التميّز : 4
    تاريخ التسجيل : 30/11/2009

    جدلية الساكن والمسكون Empty جدلية الساكن والمسكون

    مُساهمة  السعيد الرس الجمعة سبتمبر 03, 2010 12:08 am

    جدلية الساكن والمسكون


    بسم الله الرحمــن الرحيم


    الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله .
    والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الكريم وعلى آله وصحبه وسلم تسليما .
    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، وبعد ،،

    مقدمــة
    يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز { ولقد خلقنا الإنســـان من سلالة من طين * ثم جعلناه نطفة في قرار مكين * ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأنـه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين } صدق الله العظيم
    سورة المؤمنين الآيات 12،13،14

    هذه الآيات الكريمة من سورة المؤمنين ستكون بإذن الله منطلقي للخوض في جدلية الساكن والمسكون ، وعليها سأستند في تحليلي للعلاقة بين الإنسان ومسكنه ذلك ليقيني بأن الله سبحانه وتعالى قد جعل في القرآن الكريم مفتاح كل معضلة تواجه الإنسان وتقف حجر عثرة أمام بناء ذاته السوية ، أو تعيقه عن آداء مهمته التي خلق لأجلها .
    وقد أصبح المسكن في عصرنا هذا يمثل إحدى أهم المعضلات التي واجهت الإنسان وعانت منها المجتمعات البشرية عامة بتعدد مذاهبها ومعتقداتها وباختلاف مواقعها وتضاريس بلدانها . خلقها ذلك الغموض الذي أصبح يخيم على طبيعة العلاقة بين الإنسان ومسكنه ، وما تمخض عن ذلك من أزمات طالت عدة جوانب من حياته الإجتماعية والصحية والإقتصادية والثقافية والسياسية ، بل إنها تجاوزت ذلك لتؤثر في نظرته الفلسفية للحياة والكون .
    ومرجع ذلك يعود لتعدد المذاهب الفلسفية والنظريات المعمارية والإتجاهات الفكرية التي أفرزتها حضارة القرن العشرين والتي تبحث في أبعاد هذه العلاقة . وقد تضاربت جميعها في تحديد مفهومها للمسكن ، فمنها من إعتنقت مذهب الوظيفية والقواعد الإنشائية وحددت مفهومها للبيت على أنه " آلة للسكن " ومنهم من إعتنق مذهب العضوية وفسر مفهومه للبيت على أنه تكامل العلاقة بين الفراغات الداخلية والمحيط الخارجي واعتبر المبنى جزء لا يتجزأ من الطبيعة وهي التي تشكل صورته النهائية . كما اعتنق مذهب آخر القيم الفراغية والتشكيلية فأصبح البيت في مفهومهم عبارة عن قطعة نحتية يتم من خلالها إبراز قدرات المعماري في السيطرة على الفراغ في أبعاده الثلاثة لخلق رؤية بصرية جمالية .
    كما اعتنقت مذاهب أخرى مبدأ الخشونة في التعبير أو النعومة والليونة في الخطوط والمسطحات ، كما انطلقت مذاهب أخرى إلى الآفاق المستقبلية وأخرى قلبت دفاتر الماضي لتستطلع من خلالها رؤية جديدة لعمارة الحاضر .
    وكلها فلسفات قامت على إنفعالات شخصية عمقت بدورها هوّة العلاقة بين الإنسان ومسكنه ، وابتعدت بها عن مسارها الإنساني إلى مسارات مادية بحثة أخذت على عاتقها إستنباط طرق إنشاء جديدة ، وطرحت في الأسواق مواد بناء تتكيف مع التقنيات الحديثة وتحرك عجلة الصناعة وتلبي طموح رجال الإقتصاد في التوجه بالعمارة نحو الشمولية والتي لا تعني إستعمال معين أو مبنى معين لآداء وظيفة محددة بالذات ، وهو ما يحقق لهم إستثمار أمثل للفراغات من الناحية الإقتصادية .
    وقد تعمق الجدل بين هذه المذاهب بفلسفاتها المتضاربة ، والكل يدافع بحماس شديد عن وجهة نظره التي ترسبت في نفسه نتيجة لخلفياته الثقافية والإجتماعية وممارساته المهنية . وفي زحمة هذه الجدليات أغفلت جميعها جوهر القضية ، فلم تبحث في علاقة الإنسان بمسكنه رغم إتفاقها جميعا في البحث عن العلاقة بين المبنى بتعدد إستخداماته بما فيها المسكن بمواد البناء وطرق الإنشاء ، واشتد تنافسها حول إستنباط حلول جديدة في هذا الإتجاه فأغرقت الأسواق " بالخرسانة المسلحة والحديد الصلب والزجاج . وآخرها العودة إلى إستعمال الطين وطرق البناء التقليدية وأختتمتها بالدعوة إلى العودة إلى استعمال الأشكال التراثية في قالب عصري " .
    ومع تضارب هذه الإتجاهات في تحديد مفهومها للعلاقة بين الإنسان ومسكنه ، هذا إن تجاوزنا عن إتهامها بالإغفال عن البحث في هذه العلاقة . أصبح من العسير جدا الإرتكان إلى إحداها واعتمادها كمرجع يحدد لنا ماهية هذه العلاقة بمفهومها الصحيح ، والذي قد يساعد على وضع حلول جادة للمشاكل التي انبثقت عن القصور الناتج عن الفهم الخاطئ لهذه العلاقة وما ترتب عنها من أزمات أخلاقية واجتماعية واقتصادية وثقافية ، والتي تفاقمت حدثها حتى أصبحت تشكل أزمة حضارية وضعت عدة علامات إستفهامية حول ما حملته إلينا حضارة القرن العشرين من قيم ومفاهيم فكرية أنتجتها الثورة الصناعية التي واكبت بدايات هذا القرن والقرن الذي قبله والتي رفضت في مجملها مبدأ التبعية لتراث الماضي الثقافي وانفصلت عنه بكل معطياته الإنسانية بدعوى أنه لا يواكب تطلعات هذه الحضارة النامية والتي اعتنقت مذهب العقلانية بالإحتكام إلى العقل وحده في تفسير كل الظواهر الطبيعية وتحليل معطياتها ، واعتبار الجوانب الروحية في الإنسان مجرد أوهام إختلقتها الخرافة والأسطورة الشعبية لمجتمعات موغلة في البداوة ، فأصبح الله في نظرها وَهْمٌ والشيطان والجن والروح والبعث وَهْمٌ وكتب السابقين وعلومهم كلها أوهام ، وما جاءت به نظريات وفلسفات معتنقيها فقط هو عين الحقيقة .
    فغابت عن هذه الحضارة قيم الروح وطغت المادة ... فأصبح الإنسان يدفع لهذه الحضارة ثمن إعتناقه لها ... حروب إستخدمت فيها أسلحة الدمار الشامل وكوارث طبيعية ومجاعات وعزلة قاتلة داخل صناديق الكبريت التي تناطح السحاب ، إلى جانب الأزمات الإقتصادية وما ترتب عنها من بطالة مكشوفة ومقنعة أدت إلى تعرض الإنسان للأمراض والإنحرافات السلوكية وغياب عن الوعي والذات وفقدان للهوية ، وآخرها غياب السكينة عن مسكن الإنسان .
    وهذا الإشكالية الآخيرة هي الخيط الذي أمسكنا به وجعلناه محور بحثنا هذا ليقيننا بأنها كانت البداية التي انطلقت منها أزمات الإنسان الأخرى والقُمع الذي احتضن بداخله نتائجها .
    فحضارة القرن العشرين إعتمدت لضمان إنتشار مذهبها أولا على مبدأ " فرّق تسد " وذلك بإخراج الإنسان من مسكن العائلة والإنفراد به داخل وحدة سكنية تعزله قدر المستطاع عن محيطه الإجتماعي ليكون أكثر إستعدادا وتقبلا وتأثرا بإعتناق فلسفاتها المادية التي تنادي بها .
    أي بمعنى آخر أن المسكن كان أداتها الأولى التي اعتمدت عليها في تحديد علاقة الإنسان بمحيطه الإجتماعي والثقافي والإقتصادي ، وذلك من خلال رسم علاقة جديدة بين الإنسان ومسكنه عبر نظريات وفلسفات ومناهج فكرية طالت مجالات العمارة والتخطيط المديني والتصميم الحضري . كما طالت غيرها من المجالات .
    وانطلاقا من المعطيات السابقة ومن الدور الذي تضطلع به العمارة باعتبارها أحد العلوم الإنسانية والتطبيقية التي تجعل من أولويات أهدافها السعي إلى إيجاد بيئة صالحة لمعيشة الإنسان تخرج به من دائرة العزلة عن ذاته ومحيطه إلى آفاق أرحب ينمي من خلالها علاقاته الإنسانية مع بني جنسه بما يكفل له المحافظة على توازنه النفسي والسلوكي والروحي إلى جانب إشباعه لرغباته المادية . وكان لابد لتحقيق هذه الغاية أن يتم إعادة تصحيح للمفاهيم المطروحة وإعادة رسم الصورة الحقيقية للمسكن والذي بدوره سيعيد للإنسان علاقته السوية مع ذاته ومحيطه الإجتماعي .
    وهذا قاد بطبيعة الحال إلى طرح عدة تساؤلات تهدف إلى تلمس بدايات الطريق للوصول إلى تحديد المفهوم الصحيح للمسكن وعلاقته بالإنسان تحت ظروف تؤكد حاجة كل منهما للآخر فلا يمكن عمارة مسكن بلا إنسان والذي في غيابه يتغير المصطلح إلى خرابة ، كما أن حاجة الإنسان للمسكن من الضروريات التي تدعم إستمرارية وجوده وممارسته لحياته الطبيعية من خلال إحاطته بجدار أمني يضمن له الإستقرار ويوفر له الخصوصية ويحميه من التقلبات البيئية ويعينه على ممارسة أنشطته الإجتماعية ، شأنه في ذلك شأن الماء الذي يشربه أو الهواء الذي يتنفسه إضافة إلى الطعام الذي يسد به جوعه والكساء الذي يستر به عورته ويحمي به جسده من حر الصيف وبرد الشتاء ، والتي تنتهي حياة الإنسان بحرمانه من إحداها أو منها جميعا .
    وانطلاقا من هذه الروابط الوثيقة بين الإنسان ومسكنه ، إعتمد مسار البحث على المنهج التحليلي لكل طرف على حده ، وذلك بالتقصي عن أصول نشأته والمراحل الطبيعية التي يمر بها كل طرف حتى يصبح كائنا مكتمل الهيئة قادرا على ممارسة دوره الطبيعي .
    فتعذر ذلك بالنسبة للمسكن وذلك لتعدد المذاهب واختلاف تفسيراتها لمفهوم المسكن والإعتبارات والمراحل التي تتطلبها العملية التصميمية . في حين كان الباب مفتوحا على مصراعيه فيما يختص بمسألة خلق الإنسان والأطوار التي تمر بها عملية الخلق هذه، مدنا بها المرجع الإلهي العظيم " القرآن الكريم " في الآيات التي إستفتحنا بها محاضرتنا هذه ، والتي يصف فيها الله سبحانه وتعالى منهج خلقه لصنعته " الإنسان " والتي مرت عبر خمسة مراحل تبدأ بالنطفة مرورا بطور العلقة ، فالمضغة فالعظام وإنتهاء بكسوة هذه العظام باللحم . يمر بها كل إنسان حتى يخرج إلى الحياة سوي الخلقة وقادرا على ممارسة وظائفه العضوية دون عائق يذكر . ثم بعد ذلك يدخل هذا الإنسان في طور آخر يتعلق بنشأته وإعداده ليمارس دوره كعنصر صالح وفاعل داخل محيطه الإجتماعي .
    فماذا يحدث لو أن خللا ما طرأ على تسلسل هذه المراحل ، أو أن إحداها قد تم تجاهلها أو أن طفرة ما تدخلت عليها ؟ حتما سيكون الجواب خروج الجنين من بطن أمه إما ميتا أو مسخا مشوها أو أبله معتوها . وهذا يقودنا إلى إستخلاص نتيجة واحدة وهي أن لهذا الكون نظاما محددا ومراحل ثابتة يمر بها كل عنصر يحتويه هذا الفضاء الهائل من حولنا والذي أحكمت صنعته بحيث يؤدي كل كائن فيه دوره المخلوق لأجله بما يحفظ للحياة توازنها سواء كان هذا الكائن " إنسانا أو حيوانا أو نباتا أو جمادا " .
    وبالتالي فإن الخروج بهذا النظام عن سياقه الطبيعي يصيبه بالخلل أو يعيقه عن آداء مهمته وربما ينحرف به نحو نهج طريق الإفساد بدلا من الإصلاح . فإذا كان هذا منهج الله في خلقه ، فلماذا لا نعتمد هذا المبدأ في عملية تشكيل الصورة النهائية للمسكن بإعتباره يحتوى بداخله إنسانا يحتاج لعنصر النظام حتى تتكامل حياته مع محيطه . ونعتمد مراحل ثابتة تنطلق منها العملية التصميمية للمسكن حتى يأخذ شكله النهائي تبدأ بمرحلة وتنتهي بأخرى يؤدي الإخلال بتسلسلها إلى الخروج به عن آداء دوره كمحتوى لتفاعل مجموعة من العلاقات الإنسانية تتسم بالتوافق مع النظام الكوني وتنسجم مع الفطرة السليمة التي فطر الله عليها الإنسان .
    ـ ولتحقيق هذه الغاية تم وضع فرضية محتواها يعتمد على إعتبار المسكن كائن حي وليس جمادا ، يبدأ رحلته نحو النشوء والإرتقاء بالخروج من صلب رغبة ساكنه ليزرع في رحم ذاكرة المصمم المعماري ، حيث تختمر فكرة نموه المكونة من حصيلة إجتماع جينات وراثية تحمل الخصائص والصفات التي سيئول إليها هذا المسكن متضمنة إحتياجات الساكن العاطفية والمادية ، مع طبيعة المنطقة والمؤثرات المناخية عليها والطراز المعماري السائد والذي يشكل الهوية الثقافية للمحيط الإجتماعي والمتمثل في العادات والتقاليد والأعراف إضافة للقوانين والتشريعات واللوائح التي تتحكم في مسار العملية التصميمية للمسكن في شكله النهائي فيأتي بذلك معبرا عن ذات ساكنه وملبيا لمتطلباته ومراعيا لظروف البيئة المحيطة بكل معطياتها الإجتماعية والثقافية والإقتصادية ، وقد أسمينا هذه المرحلة " طور النطفة " .
    ـ لتنتقل بعدها الفكرة إلى مرحلتها الثانية حيث تأخذ لنفسها شكلها المبدئي على صفحات الورق تترائى فيها ملامح فراغات المسكن وعلاقتها ببعضها دون أن يكون لها شكل واضح أو مساحات محددة ، ولنسمي هذه المرحلة " طور العلقة " .
    ـ بعد ذلك يبدأ كل فراغ يتضح بمساحاته النهائية وتفاصيله المعمارية ، ويأخذ موقعه المحدد له حسب وظيفته التي سيؤديها داخل هذا المسكن وعلاقته بالفراغات الأخرى وتوجيهه المناسب ، محققا بذلك إكتمال المرحلة الثالثة والتي سنسميها " طور المضغة " .
    ـ وفي المرحلة الرابعة يتم إختيار النظام الإنشائي الذي سيقام على أساساته المسكن بحيث يأتي متماسكا في بنيانه ومتجانسا مع روح الفكرة ومعبرا عن مضمونها ، وهذه المرحلة أطلقنا عليها " طور خلق العظام " .
    ـ ثم بعد ذلك تأتي المرحلة الخامسة والتي يتم فيها دراسة واجهات المسكن من زواياه المختلفة دراسة وافية يُراعى فيها أن تعبر في مجملها عن الإحتياج الفعلي للمستعمل في تحقيق عاملي الأمان والخصوصية إلى جانب توفير الإضاءة والتهوية الطبيعية ، وأن تراعي كذلك ظروف البيئة المناخية المحيطة بالموقع ، إضافة إلى تحقيق عامل البساطة والإقتصاد دون إغفال للجانب الجمالي الذي يعتبر إكليل الغار الذي يتوج هذا الجهد المضني بالنجاح في الوصول بأطوار الخلق إلى مرحلتها النهائية وهي " كسوة العظام باللحم " .
    وأي محاولات للمعالجات المفتعلة تفقد هذه الواجهات قيمتها الوظيفية والجمالية ، وتصبح مثلها في ذلك مثل العجوز المتصابية التي تلطخ وجهها بالأصباغ لتقنعنا بأنها صبية حسناء ، فلا نزيد على أن نمر من أمامها ونحن نخفي إبتسامة السخرية ، وفي أسوأ الحالات نصاب بالأسى على العقل المفقود في هذه العملية .
    وبانتهاء هذه المرحلة يدخل المسكن مرحلة جديدة وهي طور الإنشاء { ثم أنشأنــه خلقا آخر } أو ما يعرف بالعملية التنفيدية على أرض الموقع تبدأ بحفر الأساسات وتنتهي بتسليم المفتاح إلى ساكنه . وفي هذه المرحلة قد يتعرض المسكن لبعض التعديلات التي تهدف إلى إعداده ليكون صالحا لآداء وظيفته كسكن ، مصداقا لقوله سبحانه وتعالى في سورة النحل { والله جعل لكم من بيوتكم سكنا } الآية 18 ، وقد فسر الله سبحانه وتعالى معنى السكن في سورة الروم وذلك في قوله سبحانه وتعالى في حق الزوجة { ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون } الآية 21 .
    فجاءت السكينة هنا بمعنى الرجوع إليها طلبا لراحة النفس والطمأنينة التي تساعد على توثيق العلاقة ودوامها ، وخلق عامل الإنسجام والتآلف . وهذا الربط بين علاقة الإنسان بزوجه وعلاقته ببيته عند نقطة " السكينة " يحدد لنا أن غاية الإنسان من إيجاد العلاقة معهما هو سعيه للظفر بعامل السكينة والتي بغيابها تنتفي دوافع العلاقة وأهدافها . كما أن خلق وجه الشبه بين المرأة ككائن حي والبيت كجماد هو الذي دفعنا إلى إعتماد فرضيتنا واعتبار المسكن كائن حي يتفاعل معه ساكنه ويتأثر بما يبثه فيه من عوامل السكينة والإستقرار .
    وبالتالي فكلما كانت هذه التعديلات التي تُجرى على المسكن في مرحلة التنفيد مدروسة دراسة جيدة ، كلما كان البيت صالحا للسكن والعكس ينافي ذلك ، وهذا تماما يشبه مرحلة إعداد الطفل ليكون رجلا صالحا يعتمد عليه مجتمعه .
    وكما أسلفنا فإن أي تدخل في تسلسل المراحل السابقة ، سواء كان ذلك أثناء العملية التصميمية والتي توافق مرحلة نمو الجنين في بطن أمه ، أو أثناء العملية التنفيذية التي تليها والتي توافق مرحلة إعداد الطفل ليصبح رجلا فاعلا . حتما سيؤدي إلى حدوث خلل في المسكن ناتجا إما عن عدم إلتزام المصمم بالتسلسل المنطقي لمراحل التصميم ، أو بالإنحراف بالفكرة الأساسية عن مسارها الصحيح وذلك بعدم إحترام رغبات الساكن الطبيعية والمادية أو تغييب دوره أو حضوره ( كما يحدث في المشاريع الإسكانية التي تتبناها الجهات العامة أو الخاصة والتي يتكرر فيها نموذج الوحدة السكنية في اتجاه أفقي أو رأسي تحت دعوى تلبية إحتياجات مستعجلة واقتصادية لحل أزمة سكن ) . أو بعدم مراعاة الإعتبارات التصميمية التي تفرضها طبيعة الموقع وتجاوزها تحت طائلة العجز عن التوفيق بين جميع هذه المتطلبات أو رغبة في الكسب السريع أو سعيا وراء نظريات وفلسفات يهدف أصحابها من خلال طرحها إلى تحقيق الشهرة أو النيل من آدمية الإنسان وصولا إلى تحقيق أغراض سياسية أو إقتصادية أو ثقافية .
    كما إن عدم متابعة العملية التنفيذية من قبل المصمم المعماري وترك المهمة للساكن أو المقاول أو العامل ليجري التعديلات التي توافق هواه أو تسهل مهمته على التصميم الأصلي ، حتما سيعرض المسكن للإختلال في وظائفه أو هيئته المعمارية مثله في ذلك مثل الطفل الذي يهمل والديه العناية بتربيته تاركين أمره للشارع وما يترتب عليه من إحتكاك برفاق السوء مما يعرضه للإنحراف في سلوكياته والتي قد تقوده إلى إحتراف الجريمة أو تعاطي المحرمات .
    إن ما قمنا باستعراضه يجرنا إلى تفهم أكبر لأبعاد العلاقة بين الإنسان ومسكنه إلى الحد الذي يجعلنا نستلهم من حديث الرسول عليه الصلاة والسلام " تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس" معياراً آخر نستند عليه لتنظيم هذه العلاقة ووضعها في مسارها الصحيح ، فكما أن دور الزوجة لا يقتصر على كونها مبعث السكينة للزوج بل تتعداه لتمثل الوعاء الذي يحتوي بداخله إنسان المستقبل والذي يرتجى أن يأتي سليم الخلقة ، سوي النشأة . كذلك يكون الحال بالنسبة للمسكن الذي لا يقتصر دوره على اعتباره منبع السكينة للإنسان بقدر ما هو وعاء آخر يحتضن بداخله مجتمع إنساني أكبر يسمى " العائلة أو الأسرة " والذين يرتجي منهم محيطهم الإجتماعي الممثل في القبيلة أو الدولة أن ينشأوا أسوياء أصحاء يمكن الإعتماد عليهم في تسيير دفة الأمور نحو مسارها الصحيح .
    ولهذا أصبحت الدقة في اختيار موضع الفكرة أمرا مهما وحاسما بالنسبة للإنسان الراغب في إرساء قواعد مسكنه .
    هذا المسكن الذي أكدت مجموعة من الدراسات والأبحاث الإجتماعية والنفسية ضلوعه وبشكل كبير في إنتشار الجريمة والإنحرافات السلوكية واعتبره علماء النفس أحد أهم العوامل المساعدة على تولّد الكثير من الأمراض النفسية مثل الإكتئاب النفسي والتوتر العصبي والقلق والتي أدت إلى تزايد حالات الإنتحار وخصوصا في المجتمعات الصناعية ، كذلك اعتبرته مسئولا عن بث روح العدوان داخل المجتمعات الفقيرة التي يكثر فيها الإزدحام وتنعدم الهوية .
    وقد أثبتت إحدى هذه الدراسات " أن الطفل الذي يولد ويعيش في الأدوار العليا من المباني المرتفعة لا تتاح له الفرصة لممارسة حياته الطبيعية واكتساب الخبرة في التعامل مع الآخرين والإحتكاك بهم ، وكذلك يفتقر إلى الإحساس بالطبيعة وجمالها والتي عزلته عنها الإرتفاعات الشاهقة للعمارات السكنية . مما يولد لديه الإحساس بالإنعزال عنها وعن الآخرين ، فينمو بذلك نموا غير سوي وخصوصا مع تحذيرات الأهل المتكررة له بعدم الإقتراب من النوافذ والأبواب والشرفات خوفا عليه من السقوط أو الخطر ، وبالتالي يتولد معه الإحساس إما بالإنطواء أو بالميول العدوانية تجاه الآخرين الذين لديهم ظروف معيشية أفضل " . *

    * مجلة عالم البناء العدد ( 87 - 88 ) يناير - فبراير 1988 / الصفحة ( 21 )
    " كما اضطرت سلطات إحدى المدن الأمريكية إلى تدمير حي سكني بالكامل بعد إخلائه من سكانه ، انتشرت فيه الجريمة واستفحل دائها للدرجة التي لم تفلح فيها الإجراءات الأمنية المشددة في التخفيف من حدتها أو القضاء على عناصرها ، وذلك بعد أن توصلت نتائج الأبحات التي أجراها علماء النفس والإجتماع إلى أن المحرك الرئيسي للجريمة في هذا الحي هو النظام التخطيطي واسلوب توزيع فراغاته الذي اعتمده المصمم المعماري لهذا الحي السكني وهو ما دفع بسكانه إلى إمتهان حرفة الإجرام وذلك بما يهيئه لهم من فراغات تحرك نوازع الشر في نفوسهم " *.
    وهذا ما يؤكد الإتجاه القائل بأن المبنى يبدأ متأثرا في تشكيل هيئته وفراغاته بفكر وفلسفة مصممه ، ثم يتحول بعد ذلك إلى مؤثر في العلاقات الإنسانية التي تدور بداخله إما سلبا أو إيجابا .
    هذا الإستعراض للعلاقة بين الإنسان ومسكنه والتي تضاربت في تفسير مفهومها جميع النظريات والفلسفات والمناهج الفكرية المطروحة على الساحة المعمارية والتي حتى وإن نجحت في تغطية جوانب منها فإنها عجزت عن تغطية جوانب أخرى لا تستقيم حياة الإنسان بدونها . الأمر الذي يدفعني إلى تجديد الدعوة بضرورة إنشاء مدرسة ليبية للعمارة والفنون تستلهم منهجها وفكرها الفلسفي من قيم ديننا الإسلامي الحنيف الذي جاء ليصحح للإنسان مسيرته نحو بناء علاقته السوية بخالقه سبحانه وتعالى وبذاته ومجتمعه والكون ، هذه العلاقة التي تتصف بالشمولية والكمال لأنها جاءت من لدن حكيم عليم وليست من صنع بشر تتنازعه الأهواء والأغراض . وهذا ما أكده صاحب هذه الرسالة الربانية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في قوله " إنما بعتث لأتمم مكارم الأخلاق " نحو إخلاص العبادة لله وحده والتنزه بالنفس عن كل ما يشينها أو يكون فيه إمتهان لكرامتها أو كرامة غيرها . وأن تجعل هذه المدرسة من القرآن الكريم مرجعها الذي تستقي منه منهجها الفلسفي الذي تعبر به عن طموح الإنسان وسعيه لتحقيق السعادة له ولبني جنسه بمختلف مذاهبهم ومعتقداتهم وإختلاف مواقعهم وأجناسهم { وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أثقاكم } ولنا في قوله سبحانه وتعالى في سورة الروم { ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل ولئن جئتهم بآيةٍ ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون * كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون * فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون } الآيات 58 ، 59 ، 60 . دعوة صريحة لإعمال الفكر وتحليل المعاني واستنباط الحكم .

    * محاضرة للدكتور رمضان بلقاسم بقسم العمارة والتخطيط العمراني ـ مادة الإسكان والتصميم الحضري .

    ولا يسعني في الختام إلا أن أجدد تقديري لكل من ساهم معي في الخروج بهذه الرؤية إلى حيز الوجود وأكرر لهم ما قلته في محاضرتي الأولى بأن هذه هي رؤيتهم جميعا ولم يكن لي إلا فضل جمعها وعرضها عليكم . مصدقا لقوله سبحانه وتعالى في سورة الرعد الآية 17 :

    بسم الله الرحمــن الرحيم
    (فأما الزبد فيذهب جفاءا وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض )
    صدق الله العظيم

    أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ـ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته




      الوقت/التاريخ الآن هو الأربعاء نوفمبر 27, 2024 1:33 am